تقرير: عماد فريج

قبل ثلاثين عاما، وبالتحديد في 15 تشرين الثاني 1988، في قاعة قصر الصنوبر بالعاصمة الجزائر، انعقدت الدورة التاسعة عشرة من المجلس الوطني، والتي أطلق عليها "دورة الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد)، بمشاركة وحدوية مثلت كل أطياف العمل الوطني الفلسطيني.

وجاءت هذه الدورة في حينها، بعد توالي المؤامرات على منظمة التحرير وقائدها ياسر عرفات، مع تزايد الاعتراف الدولي بفلسطين ومنظمتها ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني. وفي ظل التفاف أحرار العالم حول انتفاضة الحجارة التي اندلعت في أيلول 1987، كان التوجه الشجاع والصريح من كل القوى الوطنية، وعلى رأسها حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، بالإعلان عن وثيقة الاستقلال من على أرض الجزائر وبرعاية رئيسها آنذاك الشاذلي بن جديد.

وقف "أبو عمار" على المنصة، بجانبه الرئيس الجزائري، ومحاطا بالعلمين الفلسطيني والجزائري، في حين غصت القاعة بالحضور من القيادات الفلسطينية وأعضاء المجلس الوطني والضيوف ومن ممثلي الدول العربية والصديقة وثلة من الإعلاميين من كل أنحاء العالم.

بدأ عرفات بقراءة وثيقة الاستقلال، معلنا قيام دولة فلسطين، وسط هتاف وتصفيق وتكبير من الحضور. تلك الوثيقة التي صاغها الشاعر محمود درويش، جاءت لترسم معالم الطريق الفلسطيني نحو الحرية والاستقلال وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة، متحدية كل المؤامرات الهادفة لطمس هوية شعبنا.

سارعت دول العالم للاعتراف بهذا الاستقلال، لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ شعبنا النضالي، مرحلة أكدت وما زالت تؤكد أن شعبنا عاقد العزم على استعادة حقوقه الكاملة، وأنه سوف يعمل على تحقيق حلمه بإقامة دولته المستقلة على وطنه المحرر، وعاصمتها الأبدية القدس. وشكل الاستقلال رسالة قوية لكل من اعتقد أو تمنى أن تندثر منظمة التحرير، ورسالة لإسرائيل دولة الاحتلال، وللولايات المتحدة حليفتها، ولكل المتآمرين على قضيتنا.

وما أشبه اليوم بالأمس، فما زالت منظمة التحرير وقيادتنا الفلسطينية ممثلة بالرئيس محمود عباس، تواجه المؤامرة تلو المؤامرة، والتي كان آخرها ما يسمى بـ"صفقة القرن" الهادفة إلى تصفية مشروعنا الوطني وحق شعبنا بالعودة وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس. هذه الصفقة التي تحاول الإدارة الأميركية تمريرها مدعومة من الاحتلال الإسرائيلي، وأطراف إقليمية، وحتى فلسطينية، لن تمر كغيرها من المؤامرات، لأن الطريق الذي رسمته وثيقة الاستقلال قبل 30 عاما ما زال واضح المعالم، وبوصلتنا متجهة صوب الدولة المستقلة والقدس العاصمة وتحقيق كل الثوابت.

ويقول الكاتب الصحفي جمال أبو نحل: "تتزامن ذكرى إعلان الاستقلال مع اقترابنا من مرحلة الخطر الشديد المتمثلة بانفصال غزة عن الضفة الغربية والقدس، واستمرار الاحتلال، وتسريعه وتيرة تهويد مدينة القدس، ونقل السفارة الأميركية للقدس المحتلة، ووجود إدارة أميركية متصهينة برئاسة ترمب".

وأضاف: "تطل علينا الذكرى ونحن نعيش اليوم ظروفا محلية فلسطينية، وعربية إقليمية وعالمية أكثر تعقيدا وصعوبة؛ وإن ارتباط ذكرى استشهاد أبو عمار وإعلان استقلال دولة فلسطين يحمل رمزية ودلالات لا تنفصل عن بعضها البعض، فالقائد أبو عمار مفجّر الثورة الفلسطينية وقائد معركة النضال والصمود وإعادة القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني على الخارطة السياسية والجغرافية".

وتابع: "إعلان الاستقلال سُطر بنضالات شعبنا وصمودهم وشلال الدماء النازفة من الشهداء، والجرحى، ومن آهات الأسرى الأبطال في سجون الاحتلال، وعلى الرغم أن فلسطين لا تزال تقبع تحت نير الاحتلال، إلا أن الشعب الفلسطيني لا يزال صامدا، وسيبقى يقاوم ضد الاحتلال حتى نيل الحرية والاستقلال وتحرير الأرض الفلسطينية من دنس الاحتلال الغاشم، ولكن هذا بحاجة ماسة منّا إلى توحيد الصفوف ورفض (صفقة القرن) الصهيوأميركية، والذهاب لتحقيق المصالحة والوحدة الوطنية، ورفض كل الحلول المجزئة، والمشبوهة لقيام كيان في غزة، فلا تمكين لنا إلا بالوحدة الوطنية، وإنهاء الانقلاب واغتصاب غزة، وستفشل كل مشاريع الفصل".

من جهته، يقول الكاتب موفق مطر إن "إعلان الاستقلال هو تعبير ناضج وواع لبرنامج سياسي حدد الخطوط الفاصلة بين نهاية مرحلة، وابتداء أخرى... كل من يقرأ وثيقة الاستقلال باللغة الأم، متجردا من المواقف المسبقة، سيجد نفسه يقرأ أسفار الحرية والاستقلال، المحددة بالمكان، وغير المسيجة بأزمان، فالإعلان حدد قيام دولة فلسطينية على جزء من أرض فلسطين، أي على أرض فلسطين المكتوبة في كل وثائق العالم الثقافية والجغرافية وحتى السياسية".

وأضاف: "بعد الإعلان بدأت معركة المفاوضات التي منحتنا فرصة قيام سلطة حكم ذاتي في غزة وأريحا، فظنها البعض نهاية المطاف، لكنها لم تكن إلا انطلاقة جديدة، لثورة الفلسطينيين الوطنيين الذين فهموا معنى كل حرف وكلمة وجملة في الوثيقة بمقاصدها ومعانيها".

وتابع: "في خطوات غير مسبوقة وبسباق مع الزمن، تم تطوير برنامج النقاط العشر لمنظمة التحرير الذي دعا إلى قيام سلطة وطنية فلسطينية على أي بقعة أرض يتم تحريرها عام 1974، لتتجسد سلطة الفلسطينيين على بعض الأرض، حيث رفع أركانها الوطنيون المؤمنون بأن لا مستحيل أمام الإرادة الثورية... واستشهد القائد الرمز ياسر عرفات مدافعا عن فكرة الدولة لأنها التعبير الأمثل لفكرة الثورة، ذلك أن الثوار ينشدون الحرية والاستقلال والاستقرار للأجيال الآتية بعدهم".

وأشار مطر إلى أن الرئيس محمود عباس نقل الصراع والمعركة إلى ميادين القانون الدولي، إلى مؤسسات العالم والشرعية الأممية، مدركا أهمية نظم قوانين جديدة للصراع عبر تثبيت فلسطين على خارطة العالم، وترسيخ مكانتها القانونية، باعتبارها الحق الأبدي لشعب فلسطين، وباعتبار فلسطين الدولة على حدود الرابع من حزيران هي نقطة انطلاق العالم نحو السلام والاستقرار والتنمية والازدهار في منطقة شهدت صراعات دموية، وتتوغل فيها صراعات طائفية وعرقية ومذهبية أيضا، تطورت إلى منحى إرهاب دولي، تساهم قوى إقليمية ودولية بتغذيته لتحقيق أهداف لا صلة لها إطلاقا بما ينشر من مقولات عن قيم الحرية والعدالة والديمقراطية، والتقدم والتحرر ولقاء الثقافات.

في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 27 أيلول الماضي، جدد الرئيس محمود عباس تأكيده على أننا "لا نؤمن إلا بالسلام طريقا للوصول إلى حل لقضيتنا... ولا نؤمن بالعنف والإرهاب... وأن السلام في منطقتنا لن يتحقق من دون تجسيد استقلال دولة فلسطين بعاصمتها القدس الشرقية.."، وما زلنا نردد لشاعرنا الراحل محمود درويش كلمات تلك القصيدة: "واقفون هنا. قاعدون هنا. دائمون هنا. خالدون هنا. ولنا هدف واحدٌ واحدٌ واحدٌ: أن نكون". حتمًا سنكون.