بكر أبو بكر

إن كتابة المحاضرة بعد فترة البحث والتفكير والفرز والتحضير تحتاج إلى تحويل المحاضرة المكتوبة ذاتها إلى مخطط الإلقاء، فأنت لن تقرأ المحاضرة قراءة قصة أو قراءة مذيع نشرة أخبار، وإياك أن تفعل! فتسقط تماما في أعين الحاضرين فهم جاءوا ليسمعوك وينظروك مترقبين أن تفيدهم وتؤثر فيهم بل وتجذبهم، ولم يأتوا ليستمعوا لمن يقلب عينيه بين الورق متجاهلا الجمهور.

اكتب، ولا تقرأ ما كتبت!

لا تقع في مثل هذا المطب أبدا، وإن لجأت للقراءة فهي ضرورة نعم حين تلجأ لتعداد نقاط محددة، أو حين تقرا اقتباسات دينية أو لمشاهير، وغير ذلك عبث.

كما حصل معنا حينما استدعينا في أحدى الدورات مسؤولا كبيرا ليتحدث عن "القضية الفلسطينية بين الأعوام 1935-1948"، وطلبنا منه كعادتنا أن يرسل المادة مسبقا بعد أن ناقشناه واتفقنا على المحاور.

بعث المادة مسبقا وهذا جيد، ولكن غير الجيد أن المادة ليست بذات صلة بما اتفقنا عليه! ولا ترتبط ببرنامج الدورة؟ وكانت هذه المفاجأة الأولى فقط، أما المفاجأة الثانية فإنه ألقى المحاضرة جالسا محتميا بالطاولة، ولم يرفع أي من عينيه الزرقاوين في وجه أي من الحضور في الدورة!

وكانت ثالثة الأثافي والطامة الكبرى حينما قرأ المادة كأنه يقرأ على إذاعة صوت فلسطين صوت الثورة الفلسطينية صوت العاصفة! فلم نكن في مهرجان جماهيري حاشد، ولم نكن في خطبة شعبية! ولم نكن نفتح مذياعا بل كنا نترقب محاضرا يشرح محطات بشكل سلس ومحدد ومثير في الفترة المحددة...

تصور لقد قرأ المادة قراءة! ولم تكن ذات صلة بالعنوان، فماذا تتوقعون من أعضاء الدورة الذين كادوا يلقون به أو بأنفسهم من الشباك! وهم ينظرون لي بحنق شديد!

ذات مرة طلب رجل دين شاب من جدته الحكيمة نقداً لخطبته الأولى (حديثه)، فقالت له: "هناك ثلاثة أشياء فقط أخطأت فيها"، قالت هذا ليشعر حفيدها الأكبر بالراحة.

سأل الشاب: "وما هي الأشياء الثلاثة الخاطئة؟"، حيث إن إجابة جدته قد أشعرته ببعض الارتياح.

فقالت: "أولاً، أنت قرأتها. ثانياً، لم تقرأها جيداً. ثالثاً، هي لا تستحق القراءة".

إذا كنت تستطيع أن تجعلها ذا جدوى، لا تقرأ من النص، فإذا لم تكن قارئاً ممتازاً، وتتشبه بعض الشيء بالممثل، فسوف تبدو عقيمة وغير طبيعية.

ومع ذلك، فهناك مناسبات من الضروري أن تقرأ فيها الخطبة، عندما يكون من المهم أن يتم نقل هذه المعلومات ببراعة وبدقة، وربما تكون القراءة هي خيارك الوحيد، وكذلك إذا كنت تتعامل مع قضايا قانونية دقيقة جداً. على سبيل المثال، فإن الارتجال من الممكن أن يكلف ثمنا غاليا.

معرفة الجمهور

التآلف مع الجمهور يستدعي أولا معرفته، فالخطاب لطلاب الثانوية المراهقين، غير خطاب الاشبال من الاطفال، غير خطاب العقلاء من الشبيبة فما فوق سنا، وهو مطب لطالما وقعت به لسوء إيصال المعلومة، فحيث علمت أن الجمهور هم طلاب جامعة أفاجا أنهم طلاب ثانوية ما تحت ال14 عاما، وحيث الافتراض أنهم طلاب ثانوية عامة كما قال لي منظم الندوة أكتشف انهم في الحقيقة أطفال يحبون الحركة واللعب، وكان الحل أن يعاد تطويع المحاضرة زمنيا لتأخذ مدى أقصر وأن تختصر الافكار الرئيسة فيها بما يتناسب مع الضرورات المطلوب أن تصل للجهة المعنية دون تكلف او طول شرح.

واستدعى الأمر في كثير من الأحيان التركيز على فكرة واحدة من مجموعة نقاط يعاد تكرارها لترسخ خاصة في الأطفال والطلب منهم المشاركة بالسؤال والإعادة والتمثيل وإحداث المقارنات وإبداء النظر في المتشابهات والربط مع ما قد حصل لهم في الحياة فتتحول المحاضرة لطلاب الثانوية من محاضرة ينتظر أن تكون قاسية وصعبة ومملة الى محاضرة كثيفة المعاني بالمشاركة رغم قصر النقاط ومحدوديتها وتقلص الزمن للكلام للمحاضر ، وزيادته للحضور وهكذا.

فلا يجب الإساءة أصلا في تحديد الجمهور، والسؤال عنه والتدقيق مسبقا، وإن حصل فليكن لديك خطة بديلة كما حصل معي او لتذهب مبكرا فتصافح الجمهور يبيدك او بابتسامتك وعينيك وحضورك مبكرا ما يغطي الثقة والمصداقية التي تستل من عينيك أنوارا تدخل قلوب الحضور حتى قبل ان تنبس ببنت شفة.

لا يتوقف تحديد الجمهور على السن بل وعلى المهنة او المركز أو العمل او الدور او الجنس، او مدى الالمام بالمعلومة او بالتخصص، وهكذا فلكل جمهور أسلوب او خطاب يتناسب مع طبيعته، حتى لو كانت المادة واحدة، ما تحتاج معه التعرف عليهم ولو على الأقل بحسن الوصف المسبق من منظم الندوة أو المحاضرة او الدورة.