خاص مجلة القدس| العدد 349 لشهر آب 2018

أبشع ما يمكن أن يسمعه إنسان في القرن الواحد والعشرين هو الإعلان الواضح الذي لا شك في دناءته ووضاعته والصادر عن كنيست الكيان الصهيوني عبر قانون أسموه: "إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي". وما سبق يعني بوضوح أيضا أن المبادرة في الجهد الاستيطاني المكثف الذي كانت تقوم به الجماعات الأيديولوجية المتطرفة قد انتقل إلى أعلى مراكز الدولة العبرية، وبات مشرَّعا بكامل حيثياته ومساراته التاريخية، وأبعد من ذلك فالقانون ألغى بشكل سافر أيضا أي حق للشعب الفلسطيني في المطالبة بأي من حقوقه التاريخية والثابتة.
إضافة إلى ما سبق تمادى "قانون الدولة القومية للشعب اليهودي"، فأطاح بكل ما سمّي قانون دولي أو مرجعية دولية، مرتكزا إلى دعم إدارة ترامب اللا محدودة للكيان الصهيوني. ما هو موقف الأمم المتحدة الآن أمام واقع هكذا قرار، وما هو الرد الذي يعيد تصويب بوصلة القانون الدولي وما يترتب على ذلك من إجراءات دولية بحق الكيان الصهيوني؟
إذن كشف الكيان الصهيوني عن أهدافه المضمرة- المعلنة عبر قانون عنصري واضح يمنح الحق لليهود دون سواهم في تقرير المصير ويمنع هذا الحق عن أي شعب آخر يشاركهم المكان والهوية- والمقصود هنا هو الشعب الفلسطيني.
قد نعزّي أنفسنا عندما نعتبر أن قوننة العنصرية الصهيونية حصلت في سياق التصرف العنصري المتمادي بحق الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967 وحتى الآن. إلا أننا نقف هنا أمام إقفال محكم وبقرار أعلى سلطة في الكيان الصهيوني- الكنيست- لكل أمل بالتفاوض على أساس إعادة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني أو إقامة الدولة فوق الأراضي المحتلة عام 67 بما فيها القدس وعودة اللاجئين، وأمام إنكار محكم لهذا الحق التاريخي الذي كفلته ولم تزل القوانين الدولية ذات الصلة بالصراع على الأرض الفلسطينية المحتلة.
إن اللحظة التي تعيشها القضية الفلسطينية أعمق وأبعد من حالتي النكبة والنكسة- اللتان وصف بهما عدوانا 1948 و1967، لأننا أمام المحطة التي تحاول مسح الوجود الفلسطيني وكل ما ترتب عليه من نضال وكفاح من اجل الحصول على الحقوق الثابتة- وغير القابلة للتصرف- بناء على مرجعية القانون الدولي. لقد تم التطاول على هذا الحق الشرعي من قبل الحكومة المتطرفة بزعامة نتنياهو. فقد سبق القرار اقتطاع حكومة الاحتلال رواتب عائلات الشهداء والأسرى لدى كيان الاحتلال، مثلما سبق ذلك إعلان القدس عاصمة للكيان الصهيوني، ومثلما سبق ذلك حديث واضح لأكاديميين وأيديولوجيين أشاروا فيه إلى عدم الثقة بالعهود والاتفاقات التي توقع مع العرب والمسلمين وبالتالي لا ضرورة لأي اتفاق معهم، وعليه ينبغي أن تتصرف إسرائيل وفق منظور مصالحها وحدها دون سواه.
هناك مستويات متعددة من المسؤولية تجاه قرار الكنيست الصهيوني.
المستوى الأول: مسؤولية فلسطيني يحشد كل القوى والطاقات الفاعلة في المجتمع من رجال قانون ودبلوماسيين وازنين من أجل ألقيام بأوسع جهد اعتراضي يستوعب القانون ويفضح حيثياته في البعد الداخلي الاسرائيلي وعبر المؤسسات الدولية التي عليها حماية القوانين والأعراف الدولية. وبذات السياق لا بد من توجه القيادة الفلسطينية إلى الهيئة العامة للأمم المتحدة واستطرادا إلى محكمة الجنايات الدولية ليس لادانة إسرائيل على ممارساتها الاجرامية بحق الشعب الفلسطيني فحسب، بل لكونها دولة عنصرية باعتراف وتوقيع أعلى سلطة تشريعية في الكيان الغاصب.
المستوى الثاني: إعلان موقف واضح وصريح- لا يشوبه تردد أو خوف من أي ضغط أميركي أو غير أميركي من قبل الجامعة العربية- رغم ضعفها وعدم انسجام دولها فيما بينهم، للتنسيق مع القيادة الفلسطينية وحمل رأيها كما هو إلى أعلى المنصات الدولية، باعتبار الأمر غير قابل للتسويف وأنصاف المواقف. حتى أن الأمر يستدعي وقفة جدية من الدول العربية التي تحاول القفز فوق دول الطوق، وتفتعل علاقات مع الكيان الصهيوني دون وجه حاجة أو مبرر لكي تعمل على لملمة نفسها والكف عن الاستخفاف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.
المستوى الثالث: على الدول الاسلامية أن تقوم بما هو واجب عليها... تجاه شعب هو الأقدم في تصديه وصموده أمام الاحتلال والظلم الذي بات من سمات هويته وملامح أهله. على هذه الدول تجيير مواقفها وعلاقاتها ومصالحها، إضافة إلى الدول العربية، للقيام بدورها الدبلوماسي لكبح جماح الدولة الرابعة في العالم على مستوى القوة العسكرية. إذ أننا نسأل هنا عن البعد العسكري والسياسي لكي يمتلك هذا الكيان الهجين هذا القدر الهائل من الأسلحة الأحدث عالميا؟ أليس من واجب هؤلاء مجتمعين الشعور بخطر المشروع الصهيوني على دولهم؟ هل يكفي اعتقادهم بمد الجسور معه للتخفف من أخطاره المحدقة؟ ماذا يعني فائض القوة الهائل الذي يمتلكه جيش هذا الكيان؟
المستوى الرابع: يوجد الكثير من الدول الصديقة والمعتدلة في عالمنا التي تؤمن بالحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، وتبادل الشعب الفلسطيني الصداقة والتضامن الانسانيين، إذ واجبنا الاتصال بهم كي يرفعوا الصوت عاليا أمام ما يحدق بفلسطين وشعبها من أخطار لا تعد ولا تحصى، بينها بالطبع الابارتهايد، بناء على قانون يمنع الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره ويحجب عنه حقوقه الوطنية والانسانية.
بناء على ما سبق: ما هي المصالحة وفق مصطلح حركة حماس؟ وإلى أي حد لم تزل ورقة التوت صالحة لاخفاء عري مواقفها وتجاوزاتها التي لا تحصى؟ حتى وإن أشيع عن حراك إيجابي برعاية مصرية، إلا أننا اعتدنا عدم الوثوق بحماس في مجال الاتفاقات والتفاهمات التي توقع معها.... فالتجربة معها مرة ومريرة في آن واحد.
بعد قرار الكنيست الصهيوني، هل من مراجعة صالحة لحماس تلتقي فيها مع الشرعية الوطنية وسط مساحة الخلاف لطي صفحة الماضي الأليم؟
ان اللحظة تستدعي القيام بكل الجهود الكفيلة بهزيمة هكذا قرار صهيوني عنصري يشكل واحدا من أسوأ نماذج القرن الحالي في التعاطي مع أزمة الهوية الوطنية والانسانية. هل حماس خارج هذه المهمة، وكيف يمكن أن تدعم الموقف الفلسطيني إن لم تبادر إلى اعلان موافقتها على شروط المصالحة الفلسطينية إن كانت فعلا تنتمي إلى هذا الشعب وقضيته؟
العالم بأسره اليوم مطالب بوقفة ضمير واحدة تجاه زمرة الاحتلال والابارتهايد التي تمارسها أكثر حكومات العالم ومجالسها التشريعية تطرفا واحتكاما لمنطق الغطرسة والقوة... ان كان لم يزل هناك ضمير في هذا العالم.
حذار من استسهال اللحظة والصمت أمام موجبات مواجهة القانون العنصري الصهيوني... جميعنا مسؤول أمام الشعب والوطن.