خاص مجلة "القدس" العدد 347 أيّار 2018

مع نهايةِ القرن العشرين شَهِدَ العالمُ حركةً تقنيّةً مُتسارعةً وتطوّرًا هائلاً على مستوى وسائل التواصل والاتصال، وأصبح في استطاعة الإنسان التواصل والاتصال مع الآخرين من دون أيَّة حواجز أو قيود، ليتحوَّل معها العالم إلى قريةٍ كونيّةٍ.
ولعلَّ أبرز أوجه هذه الثورة هي التقنيات التي طرأت على الشبكة العنكبوتية "الانترنت"، والتي أصبحت تغزو كلَّ مرافق حياة الإنسان المعاصِر، وما أفرزتهُ هذه الشبكة من مواقع للتواصل الاجتماعي أتاحت للمواطنين التفاعل مع الأحداث السياسية والاجتماعية في أنحاء مختلفة من العالم، ومهَّدت الطريق للمجتمعات كافّةً للتقارب فيما بينها بدون النظر إلى المسافة الزمنية أو المكانية بين هذه المجتمعات.

لكنَّ تأثير مواقع التواصل الاجتماعي لم ينحصِر في حياة الفرد والمجتمع، إنَّما تعدّاه ليطال قطاعاتٍ انتاجيّةً كالإعلام التقليدي، إذ أصبح بإمكان الفرد أن يُنتِجَ رسالتَهُ الإعلامية الخاصّة به، ويُصبِح فاعلاً ومُشاركًا في تشكيل الرأي العام، وجزءًا من التغيير السياسي والاجتماعي في مقابل تراجع دور الإعلام التقليدي في تشكيل الرأي العام.
وعن ذلك يقول الخبير في مواقع التواصل الاجتماعي علي شهاب: "لقد أسَّست مواقعُ التواصل الاجتماعي بشكل عام، والفيسبوك وتوتير بشكل خاص، لمرحلة جديدة في قياس مستوى الخطاب السياسي ومدى تأثُّر الجمهور به من خلال التعليقات والمشاركات والإعجابات، وأسَّست للغة خاصة، الأمر الذي دفع بأجهزة الاستخبارات العالمية إلى الاستفادة منها لمحاولة فرض خطابها الإعلامي، وبالتالي فرض الحقائق وتزييفها والتشويش على الكثير من الثوابت التقليدية للمجتمعات".
ويُضيف شهاب: "إنَّ الأخطر في كلِّ ما سبق هو أنَّ مواقع التواصل الاجتماعي أسَّست لمرحلة الحرب الناعمة واختراق المجتمعات العربية من قِبَل العدو الصهيوني على مستوى الوعي الثقافي للمجتمع، كما أصبحت لديه القدرة على تحريك الجموع -التي تدور في الفضاء الإلكتروني- تجاه قضيّة معيّنة".

العسكرة الرقمية للعدو الصهيوني
منذ نشأة وسائل التواصل الاجتماعي صبَّ العدو الإسرائيلي جُلَّ اهتمامه على السيطرة على هذه الوسائل، واستطاع في وقتٍ قياسيٍّ أن يُوظِّف هذه الوسائل في خدمة أهدافه العسكرية، وفي معركته ضدَّ الشعب الفلسطيني، وأصبح العدو الإسرائيلي من خلال اختصاصييه، وحتى مستوطنيه الأكثر نشاطًا على مواقع التواصل، يستخدم هذه المواقع لإعلان الحروب، ونفي الاتهامات، وفي الدفاع عن الممارسات العنيفة والانتهاكات الفاضحة لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة.
ولم يقف العدو الصهيوني عند هذا الحد، إنَّما تعدَّاه إلى إنشاء وحدةٍ خاصّةٍ أطلق عليها وحدة "النوايا الجنائية" التي أطلقت نحو خمسة آلاف حساب على "فيسبوك" مهمَّتها متابعة الناشطين العرب عامّةً، والفلسطينيين خاصّةً، على مواقع التواصل الاجتماعي في محاولة لتحليل كتاباتهم لمعرفة ما إذا كانوا ينوون القيامَ بعملٍ ضدَّ جيش الاحتلال الإسرائيلي أو مستوطنيه.
وتصاعد الاستخدام الإسرائيلي لمواقع التواصل حتى وصل الأمر به لرفع دعاوى قضائية على "فيسبوك" لإجبارها على تعليق الحسابات الداعمة للانتفاضة الفلسطينية، وحذف المنشورات التي تدعو إلى استمرار عمليات الطعن والدهس ضدَّ جنود الاحتلال الإسرائيلي.

المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية على مواقع التواصل
إزاءَ هذا الواقع كان لا بدَّ للشباب العربي عامّةً، والشباب الفلسطيني خاصّةً، التحرُّك لمواجهة محاولات السيطرة الإسرائيلية على مواقع التواصل الاجتماعي، وكانت المواجهة الأولى بين الفلسطينيين والعدو الإسرائيلي على مواقع التواصل الاجتماعي في العام 2012، عندما قرَّرت (إسرائيل) إعلانَ الحرب على غزّة من خلال تدوينة على موقع "توتير"، فكان الرّدُّ من الجانب الفلسطيني بتهديد الجنود الإسرائيليين في حال تقدَّموا باتجاه الأراضي الفلسطينية، ليُسجَّل بعد ذلك إعلان أول حرب في التاريخ على موقع للتواصل الاجتماعي.
ولم يكتفِ الشباب الفلسطيني بذلك، إنَّما تعدّاه لإنشاء جيش إلكتروني ضخمٍ ونَشِطٍ على مواقع التواصل الاجتماعي، يتصدَّى من خلاله لمحاولات العدو الإسرائيلي كافّةً للتعمية على الحقائق أو تزييفها، الأمر الذي أشعر العدو الإسرائيلي بقلقٍ شديدٍ من هذا الجيش الالكتروني، وقد عبَّر عن ذلك على لسان رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو الذي هاجم مواقع التواصل الاجتماعي واتَّهمها بالمساهمة في ارتفاع حدّة الانتفاضة الفلسطينية وعدم الوقوف إلى جانب (إسرائيل)، وهو ما أعطى زخمًا أكبر للجيش الإلكتروني الفلسطيني لتعزيز وجوده على مواقع التواصل الاجتماعي.
وتطوَّر الأمر لدى الشباب العربي، وتحديدًا الفلسطيني، ووصل النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي إلى ما يشبه استراتيجيةً غير مُعلَنَةٍ تفترضُ أنَّ الحرب على مواقع التواصل الاجتماعي هي حربٌ مفتوحةٌ بين العرب والعدو الإسرائيلي، لذلك كان إغلاق الحسابات على هذه المواقع أمرًا طبيعيًّا يستوجب إنشاء حسابات جديدة على مدار الساعة لإنهاك العدو الإسرائيلي في تَتَبُّعِ هذه الحسابات التي باتت تُشكِّل مصدرَ قلقٍ وإنهاكٍ لوحدات "النوايا الجنائية" التابعة للعدو الإسرائيلي.
وتضامن مع ساحة المواجهة الجديدة هذه العديد من الكُتّاب والروائيين والصحافيين العرب الذين انبروا إلى عقد المؤتمرات والدورات التي تُعلِّم الناشطين على كيفية تظهير القضية الفلسطينية على مواقع التواصل الاجتماعي، وكيفية كسب التأييد والتعاطف مع هذه القضية العادلة، ولعلَّ أبرز الأمثلة على ذلك ما قامت به صانعة الأفلام الفلسطينية روان الضامن التي قدَّمت على مدار ثلاث سنوات دوراتٍ تدريبيّةً تحت عنوان "كيف نروي قصة فلسطين إعلاميًّا؟".
وعن ذلك تقول الضامن: "أكثرُ ما حفَّزني على تنظيم هذه الدورات أنَّ المتخصِّصين أنفسهم لديهم إشكالية في طريقة رواية القصة الفلسطينية، وهذا الخلل لا يعالج فقط بتوفير المعلومة إنَّما يجب عليهم بالضرورة أن يعرفوا التوقيت والطريقة والأسلوب لرواية القصة الفلسطينية". وتضيف: "بقصد أو بغير قصد أسهم التركيز على بعض المعلومات أو تشويه المعلومات أو عرض القضية الفلسطينية بطريقة بكائية أو حماسية في الإساءة للقضية الفلسطينية، ممَّا أبعد جزءًا من المتعاطفين مع القضية الفلسطينية".

القضية الفلسطينية قضيةُ عادلةُ في الفضاء الإلكتروني
على الرغم من أنَّ الفلسطينيين هُم الذين يعيشون المواجهة اليومية مع العدو الإسرائيلي ويدفعون نتيجة ذلك ثمنًا باهظًا، إلَّا أنَّه من غير الممكن اعتبار القضية الفلسطينية قضيّةَ تحرُّرٍ محصورةً في نطاق جماعة أو حدود معيّنة، وهو ما دفع بالعديد من المتعاطفين مع هذه القضية إلى تسخير قدراتهم في خدمة هذه القضية.
وإن كانت الأنظمة المتعاقِبة في المنطقة العربية قد رفعت شعارَ فلسطين في خطاباتها على مدى العقود الماضية، لكنَّ الواقع كان عكس ذلك، إذ شَهِدَت القضية الفلسطينية محاولات تصفية في العديد من الحقبات الماضية، إلّا أنَّ مواقع التواصل الاجتماعي شكَّلت رافعةً معنويّةً لهذه القضية أجهضت كلَّ محاولات تصفيتها، ووضعتها مُجدَّدًا في دائرة الاهتمام العربي والدولي، وأصبح التفاعل والتضامن مع القضية الفلسطينية في الفضاء الإلكتروني في أوجه منذ اندلاع الانتفاضة في وجه المحتل.
وأصبح المتتبِّع لمواقع التواصل الاجتماعي يجد أنها باتت تُشكِّل بابًا للدعاية السياسية والترويج للقضية الفلسطينية يُعبِّر من خلاله الشباب الفلسطيني عن معاناته اليومية، ويفضح الجرائم الإسرائيلية من خلال الضخِّ اليومي لآلاف المنشورات عبر صفحات التواصل الاجتماعي، وأصبح بإمكان الشباب الفلسطيني إطلاق الحملات ودعوات التأييد للقضية الفلسطينية لتلقى رواجًا على أرض الواقع، لتتحوَّل القضية الفلسطينية بذلك إلى قضيةٍ مركزيّةٍ للشعوب التي تُدين الاحتلال وتمقتُهُ.