يحاول الآباء في كل العالم إقناع أبنائهم بأن لا غول سيقض مضاجعهم في الليل، لكن في فلسطين الغول حقيقة ماثلة، بدخلاء يرعبون الأطفال ويسرقون آباءهم.

كانت عقارب السَّاعة تشير إلى الخامسة فجرًا عندما استيقظ نجيب مفارجة (33 عامًا)، على صوت طرقات تنهمر على باب داره، وصراخ وتهديد ووعيد بتفجير الباب إن لم يفتح بسرعة.

هَبَ نجيب، المعتاد على الاقتحامات الثقيلة فجرًا بعد أن سجن مرتين، من نومه مسرعًا نحو النافذة، إذ بقوة كبيرة من قوات الاحتلال مدججة بالسلاح والكلاب البوليسية تحاصر منزله في بلدة بيت لقيا غرب مدينة رام الله، فيما سارعت زوجته أماندا نحو غرفة طفليها إباء وبراء، تهدئ من روعهما، حيث كانا يبكيان من الخوف.

أخرج الجنود جميع من في المنزل: نجيب وزوجته وطفليه، ووالديه وأشقاءه وشقيقاته الذين يسكنون في الشقة المجاورة، وشرعوا بتفتيشه، قبل أن يقوموا باعتقال نجيب بعد تكبيله وتعصيب عينيه وزجّه داخل إحدى الآليات العسكرية.

وقبيل زجّه في إحدى آليات الاحتلال العسكرية، أسرعت إباء إلى حضن والدها وتبعها شقيقها براء، في الوقت الذي تمكنت عمتهم من التقاط مجموعة من الصور خلسة، حيث ضجت بها مواقع التواصل الاجتماعية، وتهافت الناس على إعادة نشرها، وتدعيمها بعبارات إنسانية، وأظهرت إحدى الصور نجيب يحتضن طفلته ويودعها، والأخرى لها ولشقيقها برفقته قبل أن يتم اعتقاله.

وبحسب وصف الأم: "كانت إباء مذعورة لأن جنود الاحتلال تعمدوا إخافتها مرارًا، وبالرغم من ذلك، قالت لوالدها لا تذهب معهم، خليك عنا، وبعد اعتقاله ضحكت بطريقة هستيرية، فيما أن براء وعمره عامان كان خائفًا ويبكي".

تقول أماندا: "تعمد الجنود خلال اقتحامهم للمنزل إعلاء صوت صراخهم أمام الأطفال، وتحريك أثاث المنزل بطريقة مخيفة، وكأنهم يحطمونه، كذلك جعلوا الكلاب البوليسية قريبة من أطفالي، ما أصابهم بالذعر".

نجيب ليس الحالة الوحيدة التي تنتشر له صور خلال وداع أطفاله، فقد سبق وأن انتشرت صور للأسير عبد الرحمن اشتيه من قرية سالم شرق مدينة نابلس، يقبل طفلته التي لا تتجاوز من العمر عامًا ونصف العام، وهو يحتضنها ويقبلها لحظة اعتقاله، في مشهد مؤثر، فيما وجدت هذه الصور صداها على مواقع التواصل.

في حالة أخرى، أظهر شريط فيديو التقط قبل عدة أشهر في مدينة الخليل، لشاب فلسطيني محاط بمجموعة من جنود الاحتلال، الذين حضروا لاعتقاله، وبعد أن كبلوه قال لطفله "تعال أبوسك"، ليطلب من أبنائه الآخرين أن يقتربوا منه وراح يقبلهم واحدًا تلو الآخر، ليزجّه بعدها جنود الاحتلال داخل الآلية العسكرية التي كانت تقف قريبة من المكان.

ويشير الأخصائي النفسي والاجتماعي في جمعية الشبان المسيحية سامي صنوبر، إلى أنَّ اعتقال رب الأسرى أمام أطفاله عمل خطير جدًا، ويؤثر على نفسيتهم، مبينًا أنَّه من الممكن أن يسبب صدمة آنية أو اضطراب ما بعد الصدمة، وغالبا ما تظهر أعراضها عقب ثلاثة أشهر من وقوع الحدث.

ويضيف: "يترافق مع ذلك أحلام وكوابيس، وخوف متكرر، واضطراب في النوم، وقد يصل الأمر حد التبول اللاإرادي، وهذا صادفناه في إحدى الحالات التي جرى خلالها اعتقال الأب أمام طفله البالغ من العمر تسع سنوات ونصف في إحدى قرى مدينة نابلس، حيث أصبح الطفل يتجنب الذهاب إلى الغرفة التي جرى فيها اعتقال الأب".

وبحسب صنوبر فإنَّ ذلك يؤدي أيضًا إلى تدني ثقة الطفل بنفسه وبالآخرين، ويصبح لديه فضول لسماع القصة مرات ومرات، كذلك يبدأ بمتابعة أخبار الاعتقالات ويشاهد مقاطع فيديو ليعيد المشهد في مخيلته، لافتًا إلى وجود فروقات فردية واختلاف بين الأطفال في طريقة التعاطي مع الحدث، وتعاملهم مع الصدمة نفسها.

ويؤكِّد أنَّه قد يوهم الطفل عائلته أنَّه لا يعاني من شيء، لكن بعد زيارات متكررة من قبل الأخصائي النفسي تبدأ أعراض الصدمة بالظهور.

ويتابع: "قضية اعتقال الأب أمام طفله ووداعه له مؤلم، كون الطفل يشعر أنَّه دون قدوة، كما أنَّه يوازي موضوع الفقدان، بمعنى أنَّ الفقدان لا يكون بالموت فقط، بل أيضًا بالاعتقال وعندما نفقد أحدًا ندخل بمرحلة الصَّدمة تلقائيًا بشكل فوري، أو بمرحلة ما بعد الصدمة التي تبدأ بعد ثلاثة أشهر".

ويؤكِّد أنَّ الطفل يرى في والده مصدرًا للقوة والحماية، واعتقاله بهذه الطريقة يجعل الطفل يفقد الثقة في مدى قدرة الأب على حمايته من الأخطار.

وفي حالة الطفلة إباء، يشير صنوبر إلى أنَّ عقلها الباطني لم يستطع استيعاب صدمة اعتقال والدها، والضحك دليل على نكرانها لوجود شيء محزن ومقلق يؤثر عليها، قائلا: "معظم الحالات التي تعاملنا معها، استطعنا من خلال جلسات التفريغ النفسي، وتقنية تخفيف الحساسية للموقف القائمة على تمارين الاسترخاء والتنفس، أن نجعلهم يستعيدون المشهد ليصبح من خلالها مشهدا طبيعيا.

ويقول"ليس فقط الأطفال من يتأثرون بوداع آبائهم، بل أيضًا الأب يصبح دائم التفكير والخوف على مصير أطفاله وزوجته، ما يجعله يعطيهم جرعة كبيرة من الحنان والدفء خلال لحظات اعتقاله كنوع من القوة وأنَّه سيعود قريبا لهم".

ويؤكِّد صنوبر ضرورة شرعنة مشاعر الأطفال تجاه أفراد العائلة التي يتم اعتقالهم أمام أعينهم، وتجعلهم يشعرون بأنَّ كل ما يصدر عنهم من تصرفات طبيعية جدًا كون هذا احتلال، إضافة إلى ضرورة تعزيز التصرفات الإيجابية التي أظهروها لحظة الاعتقال، وأن تكون العائلة حاضنة للطفل بالكثير من الحب والعطف والتفهم لحين تجاوزه المرحلة.